سببت أزمة اليونان صداعاً حاداً للاتحاد الأوروبي. فاليونان، وهي عضو صغير من أعضاء الاتحاد، تجد نفسها الآن غارقة في ديون هائلة تقدر بـ300 مليار يورو أي ما يعادل 113 في المئة من دخلها القومي. ولخدمة هذا الدين بمعدلات الفوائد الباهظة التي تتطلبها الأسواق المالية، يتطلب الأمر من اليونان، خلال هذا العام جمع قرابة 50 مليار يورو كبداية، وهو أمر صعب التحقيق، ويعني أن اليونان باتت معرضة لخطر الإفلاس. وإذا حدث ذلك، فإن أوروبا بأسرها ربما تنهار، والاحتمال الأسوأ أن تتعرض رؤية أوروبا كقارة فيدرالية قوية، إلى ضربة قاصمة. وهناك في الوقت الراهن عدد كبير من الأشياء التي باتت معرضة للخطر، فهذه الأزمة التي يتم متابعتها الآن عن كثب في مختلف أنحاء العالم، تحمل في طياتها دروساً كثيرة ينبغي الاستفادة منها سواء من قبل الولايات المتحدة أو أميركا اللاتينية، أو ربما من قبل العرب - في القريب العاجل. فتماماً مثلما أن رؤية أوروبا الموحدة آخذة الآن في الأفول، نجد أن فكرة القومية العربية ذاتها لم تعد تلهب خيال الجماهير، وأن شعار الوحدة العربية قد فقد قوته التعبوية. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما هي الدروس التي يمكن للعرب أن يتعلموها من الأزمة اليونانية؟ من أوضح الدروس، أنهم ما لم يعملوا على تنسيق سياساتهم في المجالين الاقتصادي والسياسي، فلن يتمكنوا من الدفاع عن مصالحهم أو جعل صوتهم مسموعا على المسرح الدولي. وهذا تحديدا هو الشيء الذي بدا الأوروبيون يرونه الآن. فهروب رؤوس الأموال خارج اليونان، عرض بنوكها، كما عرض الدولة نفسها للخطر. والأمر لم يقتصر على رأس المال الأجنبي بل تشير التقارير كذلك، أن اليونانيين الأثرياء قد سحبوا ما يقدر بـ 10 مليارات يورو من أموالهم المودعة في البنوك اليونانية. ولكي تتجنب اليونان الإفلاس المؤكد، فإنها تحتاج إلى حزمة إنقاذ شاملة من أوروبا على وجه السرعة. وفي 25 مارس المنصرم، تبنى قادة الاتحاد الأوروبي خطة لإنقاذ اليونان، بمساعدة من صندوق النقد الدولي. وعلى الرغم من درجة الاستعجال القصوى التي يتسم بها الموضوع، فإن تلك الخطة لم يتم استكمالها حتى الآن. يوم الجمعة الماضي، أعرب عدة قادة من الاتحاد الأوروبي عن دعمهم لليونان، وهو ما سمح لليورو باستعادة بعض من الأرض التي كان قد فقدها من قبل، لكن هؤلاء القادة يجب أن يدركوا أن الكلمات وحدها لا تكفي، وأنها لن تحل المشكلة. والسبب في تأخير حل الأزمة يرجع إلى أن ألمانيا، وهي مركز القوة المالية لأوروبا، تعارض تقديم خطة إنقاذ فورية لليونان، في صورة قروض بأسعار فائدة تقل عن أسعار الفائدة السائدة في الأسواق حالياً. والموقف الألماني يمكن فهمه إلى حد كبير، إذا عرفنا أن الانتخابات تقترب، وأن ميركل لا تريد أن تبدو في صورة السياسية التي تصرف من دفتر شيكات بلدها دون تبصر. الصرامة في التعامل أكسبت "ميركل" الكثير من الثناء داخل وطنها، لكن في نفس الوقت عرضتها لاتهامات بالغطرسة تجاه الدول الأجنبية، وهو ما بدا واضحاً عند تعليقها على الأزمة الأخيرة عندما قالت مشيرة لليونانيين :"كان عليهم أن يستيقظوا مبكرا قبل استفحال أزمتهم"! وترغب اليونان في اقتراض 30 مليارا أو 40 مليار يورو من أوروبا، وصندوق النقد الدولي بفائدة تبلغ 4 في المئة تقريباً، لكن ألمانيا تريد منها أن تدفع فائدة أعلى بكثير يمكن أن تصل إلى 6 في المئة. وموقف ألمانيا سببه الخشية من أن يؤدي إنقاذ اليونان من خلال حزمة سخية، إلى إغراء دول أخرى مثل البرتغال وإسبانيا بأن تحذو حذوها. فبعد أن تكبدت أكلافاً باهظة في سبيل توحيد شطريها، وضمان استقرارها، لم تعد ألمانيا على استعداد لمكافأة الآخرين، على سوء تصرفاتهم وخصوصا تلك التي تؤثر على الاستقرار المالي لدول الاتحاد الأوروبي، الذي ترى المستشارة الألمانية أنه يجب منحه أولوية قصوي في منطقة "اليورو". وقد قاد هذا الموقف من جانب ألمانيا إلى صدام مع فرنسا. فالشراكة الألمانية- الفرنسية التي لا تزال تعتبر قاطرة أوروبا لم تعد تعمل بشكل جيد، وإذا زادت شقة الخلافات بين البلدين، فإن تلك القاطرة قد تنفجر من داخلها، وهو ما قد يؤدي إلى مشكلة أخطر بكثير من تلك التي تمثلها الأزمة اليونانية الحالية. خرج الاتحاد الأوروبي من براثن الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية بخطى أبطأ من باقي دول العالم. يعود السبب في ذلك - ضمن أسباب أخرى - إلى أن أوروبا لم تعد مستقرة كما كانت، بعد التغييرات الجيواستراتيجية التي حدثت في العالم، وأدت إلى تحريك مركز ثقله باتجاه آسيا. كما أدى ظهور الاحتكار الثنائي الأميركي - الصيني إلى تقليص الدور الأوروبي، بحيث لم يعد هذا الدور يساهم سوى بقدر أكثر تواضعا بكثير عما كان عليه من قبل، في تسيير شؤون العالم. لهذه الأسباب مجتمعة، تعاني أوروبا في الوقت الراهن من انعدام اليقين والتشاؤم. كما أن الأزمة اليونانية كشفت عن جوانب ضعف خطيرة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي المختلفة، علاوة على أن حكومات الاتحاد لم تحترم بنود "ميثاق الاستقرار" الذي وقعت عليه، كما أن العجز المالي في العديد من دولها خرج عن نطاق السيطرة، وعلى الرغم من اعتماده على عملة واحدة، فإن الدول الأعضاء فيه لم تمارس ذلك النوع من الانضباط الضروري للدفاع عن وحدة تلك العملة. والاتحاد الأوروبي، يجد نفسه الآن في وضع حرج. فبعد أن شرع عبر سنوات في مسيرة نحو التكامل، اكتشف الآن أن هناك دعماً قليلاً لتلك المسيرة على مستوى كل دولة. وعلى الرغم من أن الاتحاد قد تجاوز مرحلة كونه عبارة عن تجمع من الدول المستقلة، فإنه لا يبدو مع ذلك أن هناك رغبة لدى أعضائه في المضي قدماً على هذا الطريق وصولا للنموذج الفيدرالي. ومشكلة الاتحاد ليست مالية فقط، وإنما تتعلق أيضاً بالسياسات وبمشاعر القومية، فهؤلاء الذين يؤمنون بأوروبا موحدة، أصبحوا في موضع الدفاع الآن، بعد أن خبا حلم الولايات المتحدة الأوروبية. في عددها الصادر في الثامن من أبريل، قالت "الفاينانشيال تايمز"إن الرأسماليين يتناقشون في الوقت الراهن حول إذا كانت ألمانيا قد فقدت هويتها الأوروبية؟ وعما إذا كانت قد خضعت للنزعات القومية الزاحفة. وفقدت إيمانها بإقامة أوروبا أكثر تماسكا وتقاربا؟ وإذا كان هذا هو الوضع حقاً، فذلك يعني أن أوروبا لن تكون أبدا اتحاداً قوياً، وغاية ما يمكنها الوصول إليه هو تكوين تجمع ضعيف من الدول. المؤسف أننا لم نصل حتى الآن إلى هذه المرحلة على رغم اعتقاد البعض أن ميركل لا تزال تؤمن بأن أوروبا مكونة من 500 مليون نسمة سيكون لها وزن في العالم ـ وفي المفاوضات الدولية ـ أكبر بكثير من ألمانيا واحدة تضم 80 مليونًا فقط. وهذا درس يجب على العرب ـ أيضا ـ أن يلتفتوا إليه عند إدارة شؤونهم الذاتية.